صحيفة العرّاب

ازدواجية الطهارة والقذارة !

بقلم الاعلامي ... بسام الياسين

((( قصة مهداة للحرامية في وطني المنهوب )))

كان الطقس جميلاً وحنوناً.الشمسُ ساطعة سطوعاً ربيعياً تبعث في النفسِ رغبة بمعانقة الكون،وتبعث في القلب لواعج حب مركون في احدى زوايا القلب. نسمات ناعمة تصافح وجوه الصبايا، تركت على خدودهن حُمرة طبيعية من لسعات برد خفيفة.طيور تحلق بفرح في مهرجان زواج جماعي فوق غيمة مسافرة الى مدن الفرح المعلقة في السماء. اسراب فراشات تتقافز فوق زهورٍ برية مشرئبة الاعناق، تُسبّح ربها بعطور تدير الرؤوس وتمنح النفوس الهدوء، فيما شفاهها رطبة من الصلاة على الحبيب المصطفى،هدية الله المهداة للوجود.سمفونية كونية تدفعك للتامل في عظمة الله والسجود له. سبحانك في عليائك لا اله الا انت.

اكفهرت السماء بلا مقدمات.هبطت درجات الحرارة هبوطاً حاداً .انقلب المشهد راسا على عقب،من ربيعي صافٍ الى طقس غاضب .اشبه ما يكون بانقلاب على ما هو قائم.باختصار نسفه من جذوره. الشتاء استنفر اسلحته الجوية الضاربة من امطار وبرق ورعد، تساندها قواته الارضية المُجوقلة،سيول جارفة ورياح عاصفة لمطاردة ربيع لم يكتمل كأنه خارج على القانون المناخي.كل ذلك ـ ربما ـ ليسترد الشتاء هيبته المفقودة،وفرض شروطه القاسية لارغام الناس على التزام بيوتهم في حظر تجول طبيعي،ارتداء معاطف ثقيلة لتعيق حركتهم.طقس متقلب مد لسانه هازئاً بالربيع و اهله،مستخفاً بالراصدين و اجهزة دوائر الرصد.فالطقس لا يخضع لمنطق الارقام الصارمة بل له حساباته وتقلباته التي تُفاجيء الجميع. الاضطراب المناخي اربك البرامج الشخصية للافراد كما المؤسسات. ابرزهم مقدمة برنامج " يسعد صباحك" التي استبدلت الافتتاحية بـ "يسعد طقسك" ثم عدلتها " يسعد مناخك.المفاجأة الكبرى ان "بطلنا" اختار هذا اليوم الكارثي " لاطلالته المباركة" .

بدأ بالرفس برجليه للخروج بالقوة.على حين غرة شعرت الام بالآم مخاض حادة،في مخالفة صريحة للتاريخ المضروب لها من لدن طبيب النسائية.وقفت حائرة. ماذا تفعل في هذا اليوم الجهنمي ؟!. السيارات توقفت عن الحركة.هاتف الدفاع المدني يرزح تحت ضغط هائل، لا امل في فسحة لالتقاطه . "داية الحي" هي الاخرى، رفضت الخروج من بيتها قائلة بعناد ـ حمار قبرصي ـ : انها لن تغادر عتبة منزلها حتى لو ان المولود "سيحرر القدس"،ويطوف بها الكعبة على كتفيه سبعين مرة. اضافت للوالد القلق :الطفل يعرف طريقه.كل الحيوانات الثدية تلد من دون "داية "،اضافت متهكمة : هل سمعت ان دابة ذهبت الى مستشفى ولادة. ان كنت حقاُ متلهفاً على ابنك وخائفاً على زوجتك، استدعِ لهما طائرة هيلوكبتر،ثم اقفلت الهاتف. خرج الطفل بعد معاناة مريرة، وهو يصرخ صراخاً متقطعاً يُقطّع نياط القلب بمساعدة جارة ثمانينية متمرسة بالانجاب. مزطت كتيبة من الاولاد قبل تأسيس كلية التمريض في المملكة.شكر الاب الجارة على المساعدة،فردت عليه اشكر الله. زوجتك لفظت الولد بلا مساعدة.لفظته من شدة البرد الذي احث تقلصات رحمية عندها.خرج كما تخرج نوى التمرة من فمك،او كما تنزلق صابونة من يديك عندما تفركهما بعصبية. ام عيالك كانت الليلة كسائق فقد السيطرة على مقود القيادة و تعطلت مكابح سيارته بسبب الانجماد على الشارع العام.الحمد لله انه لطف، فشبكة حماية الطريق حالت دون سقوطه في جرف عميق.اخذ الاب يردد الحمد لله...الحمد لله...واقترب منها هامساً قائلاً: لكن وجه الطفل ازرق... ما علته، و انت صاحبة خبرة في الانجاب اليدوي .ردت عليه بثقة العارف : لا تخف... الولد راسه كبيرة مثل طنجرة العائلة ـ ما شاء الله علية بعشي كتيبة ـ .ان آلآم الطلق وحجم راس الطفل دفعا الام لا شعورياً الى شد ساقيها على رقبته.كادت ان تخنقه الا ان الولد نفذ بمشيئة الله،ناهيك انه قوي،فانا لم ارَ في حياته مولوداً بحجمه. نظر الوالد الى راس المولود الضخم،ثم نظر الى زوجته الناحلة مثل قصبة . رفع يديه للسماء مردداً : سبحانك ربي ما ابدع صنعك،انفاق امانة عمان الكبرى وعباراتها تضيق بامطار زخة عابرة للعاصمة...فكيف خرج هذا المخلوق ذو الراس الضخمة ؟!.

شب الطفل قوي البنيان، صلب العود،ذو نزعة للسيطرة على اقرانه لانه ترعرع في اسرة فقيرة تقع في قاع السلم الاجتماعي.وعاش طفولة محرومة قاسية.كرد فعل نشأت لديه رغبة استحواذية لإختطاف ما في ايدي زملائه في المدرسة،خاصة الموسرين منهم.رافق طول يده امنيات متخيلة يطلق عليها القائمة الذهبية. قوته العضلية وطموحاته الكبيرة، ولدّت عنده ثقة عالية بالنفس، بلغت اقصى درجات الزهو والتعالي.تميزه بالكثير من المميزات، خلق له خصوماً بعضهم بدافع الحسد وبعضهم الاخر بدافع الغيرة. تجلى تميزه اكثر اثناء دراسته الجامعية،حيث حصل اعلى معدل في كليته وتجاوز في معدله التراكمي كل من سبقوه،مما دفع خصومه لاصصياد اخطاءه او فبركة الشائعات حوله الا انه تجاوزها، وقفز فوقها كانها بركة صغيرة موحلة من دون ان تتلوث كندرته.اكثر ما يغيظهم انه كان يزدريهم،و يحط من قيمتهم حين تجمعهم جلسة واحدة، لخلق نوع من التوازن الطبقي معهم.في الطرف الاخر كان استاذ جامعي كهل يراقبه عن بُعد باعجاب. السبب حسب ادعائه انه يرى شبابه فيه، اما الحقيقة الثابتة فكان يحبه لانهما نبتا في بيئة متشابهة حد التطابق. حصل على الشهادة في فترة زمنية قياسية، بتقدير امتياز.كان الاول على دفعته ما شجع الدكتور الكهل ان يُؤّمن له وظيفة محترمة من خلال شبكة معارفه الواسعة.اثناء عمله الوظيفي، بذل جهوداً جباره لاثبات وجوده،خاصة انه بلا سندٍ يسنده غير كفاءته.ادهش رؤساءه في العمل. جرى تكريمه في ذات السنة بترقية كبيرة. رغم نجاحاته الباهرة الا ان ما كان يشقيه تلك القوقعة الصلبة التي يشيلها على ظهره. "ارثه الاجتماعي"و انحداره من ابوين فقيرين.والده امضى حياته "عجاناً" في "مخبز الرغيف الطازج".كان ينهض قبل صياح الديك،ولا يعود للبيت الا بعد غروب الشمس مهدوداً. يتناول لقمة طعام وينام مثل مريض في غرفة الانعاش.كانت مخاوف الزوجة ـ في كل ليلة ـ ان لا ينهض من نومه بسبب شخيره المدوي الذي يزعج الجار السابع،اضافة الى الكوابيس التي تداهمه كل ليلة.مهنة " العجن" شاقة وصعبة لا تعترف بعطل دينية، ولا اعياد رسمية. الشاب لا يلتقي بابيه، فكان كلما اشتاق رؤيته ذهب اليه لتناول الكعك المسمسم المغمس بالشاي،وعندما يخرج ينقده ثمن تذكرة سينما . كيف يخرج من هذا التاريخ الاسري ؟!.

سؤال ملحاح، يلح عليه نهاراً ويؤرقه ليلاً. نعم ، حصلت على شهادة جامعية مميزة،وظيفة حساسة. ماذا بعد ؟!.

لكنني مازلت مربوطاً بانشوطة الماضي.مازلت اركض في مكاني كمريض قلب يركض فوق " قشاط الجهد" لفحص مدى قدرته على التحمل.تحملت كثيراً. تعب خصومي مني بانتظار ان اسقط. سقطوا جميعاً ولم اسقط. قلبي ينبض كقلب حصان سباق، انفاسي قوية كطائرة نفاثة.مشكلتي مع مجتمعي الاستهلاكي. كلهم ينظرون لي نظرة دونية رغم عدم افصاحهم .ارى الكلمات القذرة معلقة على شفاههم.اقرأها في عيونهم الماكرة. افهمهم من نظرة خاطفة فلقد ورثت فراسة جدي الذي كان يقرا الناس قرآءة لا تخيب. مجتمع عفن لا يعترف الا بالمال. المال يرفع الانذال، ويهوي بالاشراف النبلاء .المال مفتاح المفاتيح لفتح الموصد من الابواب.الدواء السحري لغسل العيوب و تطهير السمعة،وان اقترف فاعلها السيء الموبقات السبع؟!.

الناس لا تسأل من اين لك هذا ؟!....المهم ان يكون معك الـ "هذا ". ؟!.

الحكومات نفسها لم تستطع سؤال كبار الحرامية من اين لكم هذا، فكيف بالمواطن العادي الذي لا يملك "الفراطة"؟!. المال هو المفتاح الذهبي...الشيفرة السحرية ... مصباح علاء الدين الخسيس اللعين . ماذا تنتظر اذن ؟!.

حوار داخلي كاد يُفجر شرايين راسه.... المفتاح بيدك،ما عليك سوى ان تفتح القاصة . تاخذ ما تريد. نزاهتك سبب خوفك لا شرفك. إفعلها ولا تخش احداً . انت تعيش في مستنقع ملوث.الكل يسرق.انت تعرفهم فرداً فردا كما تعرف باطن كفك. يتدثرون بعباءات الشرف، النزاهة،الطهارة وهم ملوثون.يتعطرون باحاديث النظافة في المجالس العامة وهم قذرون.ماذا ينفعك صدقك في محيط كاذب ؟!.

مال الدولة ان لم تسرقه سيسرقه غيرك ؟!.

حقيقة نحن في ارض العجائب . في الدنيا كلها يسرقون الاموال المنقولة اما جماعتنا فيسرقون الاراضي ايضاً. لو رويت هذه الرواية لعصابات المافيا الايطالية اشهر حرامية التاريخ،لكانوا كذبوك واتهموك بالجنون .لكانوا سألوك باستغراب هل هناك لص يسرق ارضاً...كيف يشيلها على ظهره و اين يخفيها ؟!.

لكنها الحقيقة،لقد سرقوا وطناً باكمله. لست انت الحرامي !. الحرامي مَنْ حرمك الحياة الكريمة ؟!.

الحرامي من سرقك تحت عيون القانون !.

ها هم الحرامية يتصّدرون المشهد.يتحدثون عن الشفافية. انت تعرفهم بالواحد...تعرفهم انهم سرسرية بربطات عنق.اصبحوا بطرق ملتوية من " علية القوم". احدهم كان يتحدث عن الرزق الحلال في سرادق عزاء،مدعياً ان الله بارك له فيه لان لان ماله فيه حق معلوم للسائل والمحروم،و يده مبسوطة كل البسط سراً في اعمال الخير لان ثوابها اكثر لانكه يكره الاستعراض و لا يبغي من وراء ذلك سوى وجه الله.لم يستح الرجل مع ان الحضور يعرفونه انه حرامي ـ ابن حرام ـ. مأكله حرام وملبسه حرام،ومشربه حرام .انهم يتاجرون بالقيم بوقاحة غانية معتزلة. انت تزحف مثل صرصار تلتقط فتات خبزهم،وما يتساقط من موائدهم ... انت ابن "عامل فرن" حتى لو سددت مديونية الدولة لن تصبح عضواً في نادي النخبة. لا تنس من انت. قبر والدك بلا شاهد يدل عليه.لم يخرج في جنازته سوى بضعة اشخاص من باب الشفقة. ابوك احد ابطال الظل.كان يعجن بكلتا يديه، والناس نيام ليأكلوا في صباحاتهم الخبز الطيب الحلال...يا لروعة الامثال الشعبية : " موت الفقير و ـ همالة ـ الغني لا يدري بهما احد.امك هي الاخرى، ماتت ولم تحقق امنيتها الوحيدة... زيارة بيت الله الحرام والصلاة في مسجد رسول الله.انت لا احد.هم اخترعوا لانفسهم اشجار عائلة ملعوب فيها، زيفوا كل شيء،ولو خوفهم من ثورة الناس وغضب المشايخ لادعوا انهم هبطوا من السماء كالملائكة،او في اقل تقدير من نسل الصحابة البررة ؟!.

نسوا وتناسوا احذيتهم المثقوبة،كعوبهم المتآكلة، معاطف الجيش القديمة البالية منذ الحرب العالمية الثانية التي اهترأت على اكتافهم اجدادهم ؟!.

لا تحزن ـ كلنا في الهم شرق ـ لكنهم اكثر شجاعة. حقيقة ثابثة كالسنن الكونية التي لا تحيد عن مساراتها : المال لا ياتي بالاستقامة و لا بالامانة...المال الكثير ياتي بالحرمنة،بالفهلوة. قاعدة ذهبية عرفها الحرامية،وعليك ان تصحو وتنام عليها كالمخدة ان اردت ان تصبح مثلهم . نظر الى ساعته واكتشف ان الدوام شارف على الانتهاء،و لم ينجز معاملة واحدة.احس بإنقباض حاد وصداع شديد لم يعهده من قبل.عاد الى الى البيت منهكاً ومعنوياته في الحضيض مثل قائد مهزوم فقد خيرة شباب جيشه في معركة غير متكافئة. دخل البيت ثم انزوى جانبأ. ليس عنده رغبة في الطعام ولا الكلام، ولا قدرة على النوم.نادته زوجته من المطبخ ان الوجبة جاهزة. لم يرد عليها. القى بنفسه على السرير كأنه جثة هامدة.هرعت الزوجة اليه مستفسرة.قال لها : لا شيء....كل ما اريده ان تتركيني وشأني.ارغب بغفوة قصيرة.اذعنت فوراً فملامحه المتوترة تشي بان افضل خدمة تقدمها اليه، تركه وحده.انسحبت بهدوء،بينما كانت الافكار السوداء تطن في راسه مثل ذبابة مقصوصة الاجنحة . في صباح اليوم التالي نهض مبكراً.غادر البيت دون ان يحلق لحيته او يمسح حذاءه كعادته. دخل الدائرة.جلس خلف مكتبه بوقار كالمسؤوليين المحترمين،ما اثار دهشة المراسل الذي تفاجأ بوجوده في مثل هذه الساعة المبكرة. سأله هل ترغب سيدي بكأس شاي دافيء في هذا الطقس البارد ام كالعادة قهوتك العصملي ؟.اجاب باقتضاب : لا هذا ولا تلك، ما ارغب فيه ان تطبق الباب خلفك،ولا تسمح لاحد بالدخول. لا تنس ايضاً ان تُبلغ موظف المقسم ان لا يحول لي مكالمة ولو كانت من دولته.ازدادت دهشة المراسل وقال له حاضر سيدي. سرح بافكاره بعيداً حتى وصل الى ايام الجامعة .لم ينهض من ذهوله الا على على ايقاع صوت زميلته الجامعية يطرق ذاكرته بقوة عندما المح لها عن رغبته بالاقتران بها عند التخرج.

ردت عليه بلا حرج : انت رجل حار كصحراء عربية بكر لم تكتشف كنوزها المخبوءة و ابار نفطها المدفونة.السبب انك تستمريء الفقر،وتفتقر لروح المغامرة.عليك ان تبحث عن ذاتك حتى لا تبقى تراوح مكانك. الفقراء والشياطين لهم نفس الرائحة النتنة .الكل يتعوذ منهم ويبتعد عنهم. احس برغبة جارفة بسيجارة ينفخ من دخانها،و ما تراكم في صدره من كبت متراكم منذ ولادته العسيرة. بعد ان اكمل النفخة الاولى تذكر النص المفقود من حديثها : الشاطر من يختصر المسافة والزمن . رفع راسه لينفخ النفخة الثانية فلمح في الخزانة المقابلة تقارير ديوان المحاسبة السنوية ذوات الاغلفة الانيقة والطبعات الجميلة وقد كساها الغبار،وآخر تقارير مكافحة الفساد،وصحف قديمة مثقلة بهوبرات النواب عن ضرب اوكار الفساد،ووعود الحكومات منذ زمن المعتكف بالله احمد عبيدات الى طيب الذكر النسور ابن عبدالله بمحاسبة الفاسدين الاحياء منهم و الاموات.

استدعى المراسل لتنظيف الخزانة وتعقيمها. شعر انه ازاح من على صدره صخرة ثقيلة. سحب من درج مكتبه السفلي زجاجة عطر مختومة، احتفظ بها منذ سنوات من صديقته الجامعية التي وصفته ان له رائحة الفقراء الكريهة. رش على بدلته كمية وافرة من عطرها الفواح،ولم ينس حذاءه من رشقات سخية قائلاً : لتذهب رائحة الفقر الى جهنم الحمراء.اخذ يُشجع نفسه : توقيعُ منك ودمغة خاتم رسمي موجود في عهدتك تدفن فقرك،تنقلك بطرفة عين الى ضفة الاثرياء، ليس سباحة تجهد فيها نفسك بل على ظهر يخت يتهادى على صفحة الماء تحفك اجمل الجميلات،وليست مثل زوجتك التي فرضها الامر الواقع عليك رغم انفك.انها طيبة لكنها بعيدة عن مقاييس احلامك. توتر قليلا...وبيد مترددة احضر ورقة رسمية مروسة .كتب على بياضها نصا تفوضه المؤسسة بسحب مبلغ يضمن له حياة سهلة هانئة. اعاد قرآءة النص عدة مرات خوفاً من وجود ثغرة هنا او هناك. اطمئن ان الامر على ما يرام.ختمها بحرفية عالية.مد يده واستل قلمه من جيبه للتوقيع عليها لتكون ـ مسك ختام ـ المسرحية. قبل ان ينزع الغطاء عن قلم الحبر السائل،دخل عليه موظف من حلقته الضيقة بلا استئذان وهو يستغفر الله وينتفض كالمصعوق الذي يمسك طرف سلك كهربائي مقشور. سأله ما بك... جعلت رُكبي ترتعش،ونبضات قلبي تتسارع ؟!.

لم يجب الموظف لكنه وضع امامه صحيفة يومية عنوانها بالخط الاحمر العريض : القبض على مسؤول كبير بتهمة الاختلاس والتلاعب باموال الدولة. تبخرت شجاعته كلها دفعة واحدة.اعاد القلم الى جيبه،وشعر برغبة في الذهاب الى الحمام. فقال له الموظف الذي مازال يرتعد : سيدي ماذا جرى لك،ولماذا تبدلت ملامحك بهذه السرعة...هل الحرامي يعز عليك ؟!.

العرق يتصبب من جسدك مع ان الطقس بارد هل استدعي الدفاع المدني ام سائقك.امتقاع وجهك وغزارة عرقك اعراض جلطة... لا تتاخر ـ سيدي ـ قبل ان يفوت الوقت،فالدقائق في مثل هذه الحالة ثمينة.لم يمكث طويلا في الحمام ولما عاد اشار للموظف بان يستدعي سائقه لينقله الى البيت. قرع جرس الباب.اطلت زوجته التي جفلت من عودته المريبة في مثل هذا الوقت.ما زاد الطين بلة طلته المزرية. سألته وعلامات الاضطراب تمتزج بنبرتها: ما الامر ؟!.

قال لها قبل الدخول في استجوابك الممل، اريد كأسا من النعناع لتهدئة اعصابي فانا مرهق. فك ربطته التي تتكتم انفاسه. خلع جاكيته، و القى بنفسه على اقرب كنبة وهو يلهث كانه انتهى للتو من سباق الماراثون .عادت الزوجة المضطربة اليه وبيدها كأس نعناع محلاة بالعسل وعلى شفتيها مائة سؤال وسؤال.بادرها قائلا : لا تخافي ـ الحمد لله ـ لقد تحققت نبوءة المرحوم جدي صاحب الفراسة الخارقة.ازدادت حيرة فوق اضطرابها وتيقنت ان زوجها يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة التي سمعته في برنامج الاسرة السعيدة من اخصائي الامراض النفسية . قالت له وهي تزم شفتيها وما هي النبوءة ؟!.

ما اعلمه ان جدك ـ رضي الله عنه و ارضاه ـ لم يكن صاحب كرامات. لقد مات في خمارة شعبية وسط البلد لافراطه في تناول خمرة رخيصة،وقد جمع له رواد الحانة ثمن كفن لستره،وتعهدت الامانة بدفنه ؟!.

امتعظ من كلامها لكنه تستر خلف ابتسامة قائلاً : اذكروا محاسن موتاكم،فقد كان المرحوم ذا فراسة كأنه يقرأ في كتاب مفتوح،عكس والدي الذي كان اغبى من يمشي على ساقين منذ هبط آدم الى الجنة الا انه رغم غبائه صار المع " عجان" في البلد.الغريب ان جدي الذكي كان يحبه ويحنو عليه لطيبة قلبه،و احياناً يضربه على مؤخرته بحنان قائلاً لمن حوله : سيخرج من صلب هذا الحمار حمارُ احمر منه. فـ " الحمرنة " في عائلتنا نعمة كبيرة لا يعرفها الا الاذكياء.لتبسيط هذه الاحجية والمعادلة المقلوبة عليكِ : ان الحمار الذي يكتفي بعليقة شعير،ويعود آمنا الى بيته،قرير العين، هاديء البال يتقافز ابناؤه حوله،محترماً في وطنه خير الف مرة من " حرامي ذكي" يسرق الملايين ويعيش قلقاً متنقلاً بين متاجر هارودز الشهيرة في لندن للتسوق ومنتجعات امارة موناكو في فرنسا للاسترخاء، فـ " ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه " ؟!.