صحيفة العرّاب

لعبة الحقيقة الكاذبة !!

 بقلم الاعلامي .. بسام الياسين

منذ بدء البدء ينزع الانسان الى البحث عن الحقيقة.العلوم بمختلف مسمياتها،الاديان بتعددها،الفلسفات على تباين مدارسها،غايتها النهائية الحقيقة،رغم اختلاف طرائقها و اساليب مناهجها.معرفة الانسان لذاته هي منصة الانطلاق للمعرفة الكلية منذ ان اطلق الفيلسوف المعلم الاول ارسطو صرخته المعرفية :"إعرف نفسك" من اجل الغوص في الذات العميقة للتنقيب في دواخلها عن الخير وتفرعاته،والتحرر من الجهل ومشتقاته. سيدنا علي كرّم الله وجهه اختزل القضية برمتها ببيت شعر واحد: أتحسبُ انك جرمُ صغيُر / وفيك انطوى العالمُ الاكبر ؟!.

شواخص ارشادية كثيرة وضعها الخيرون على درب الانسان المترعة حياته باسئلة مقلقة ونهاية موجعة. قانون السببية يقول: المقدمات الصحيحة تؤدي الى نتائج صحيحة. ما فعله الاشرار عكس ذلك. بداياتهم الخاطئة ادت الى نهايات خاطئة اذ انهم بذلوا جهوداً مضنية لطمس الحقيقة او تشويهها والتشويش عليها بإجابتهم على ذات الاسئلة إجابات عدمية كانت مجلبة للشقاء الانساني. فلا عجب ان كانت الحكمة ضالة المؤمن،والمعرفة احد اهم شروطه لإغناء حياته بالوعي الذي يُشكل نقصها قوة دفع كبيرة للاستزادة منها،"وقل ربي زدني علماً"،والركض خلفها اينما كانت"اطلبوا العلم ولو في الصين". الدول العظمى كما الدول الصغرى.

الاحزاب الصغيرة كما التكتلات الدولية الكبيرة،ما انفكت عن الادعاء بامتلاك الحقيقة. اذرعها الطويلة قنوات فضائية،صحافة،اذاعات،مواقع الكترونية، تنفق عليها مئات الملايين،وبعضها تصل اكلافها المليارات لتجميل صورتها،وتلميع زعيمها،و تشويه صورة معارضيها،وفبركة الاخبار وتلفيق الروايات الكاذبة عنهم، بلغة محكمة حتى لتبدو كانها حقائق دامغة.من هنا قيل ان :" الحلفاء انتصروا على المانيا بفضل الصحافة".فمنذ بواكير القرن العشرين ادركت الدول مدى اهمية الاعلام وتأثيره داخلياً وخارجياً،فعملت على الهيمنة عليه واشترت ذمم الكثيرين من الكُتاب و انشأت الاذاعات الموجهه والصحافة المتعددة الاغراض ثم شيدت الفضائيات العملاقة. الاعلام الغربي كان الاشد تأثيراً،و الابرع اثراً في اللعبة بإقتحامه المغاليق المغلقة .

صار كاللص الذكي كلما ابتكر الحداد قفلاً جديداً اخترع مفتاحاً يفتحه . للدقة اكثر اصبح كمخرج هوليودي ذي موهبة خارقة في اخراج افلام البورنو ـ الجنسية ـ حيث يُسخر فنه المتقدم وتقنياته العالية لتصوير لقطات ساخنة،باوضاع شاذة لخلق اثارة اكثر في سبيل استقطاب اكبر عدد من المشاهدين .

هو لا يكثرث بانسانية طرفي المعادلة الرجل و المرأة ـ او انسانيتهما ـ.اهتمامه الاكبر ينصب على الصورة الصادمة و الايحاءات المثيرة لتحقيق سيطرة كاملة على مشاعر المتلقي وبرمجته أي "قولبته بالقالب الذي يريد"،وتطويعه كقطعة صلصال رخوة. انها لعبة "الحقيقة الكاذبة".

الاعلام العربي بابواقه النشاز وطبوله المثقوبه، مختلف ومتخلف.عدمي وعبثي لم يتعلم من تجربتي احمد سعيد ومحمد الصحاف بل انتج اعلاميين مبتذلين على شاكلة توفيق عكاشة وعمرو اديب ومن لف لفهما من الساقطين الذين يدورون في فلك الانظمة و يتحركون بريموتات الاجهزة الامنية .فعوضاً ان يتقدم الاعلام في الالفية الثالثة،عاد الى زمن الردة ـ الجاهلية الاولى ـ .تألق في باب المهاترات و التراشق بالقاذورات،متخذاً اسلوب "معركة النقائض" مثالاً في فن الردح والشتم التي اشتعل اوارها بين الفرزدق وجرير.

للامانة التاريخية حتى لا نبخس الاعلام العربي حقه فقد ابدع في نسج الفضائح،تفنن في خطاب الكراهية وشحن الفتنة لتصفية حسابات شخصية،رخيصة وضيقة،متزامناً مع تراجع الحريات السياسية و الاعلامية .

كل ذلك جرى تحت مظلة ديمقراطية مزيفة، وانتخابات برلمانية صورية افرزت نواباً كشخصيات المتاحف الشمعية البريطانية او تلك الحجرية الممسوخة منذ عاد وثمود.عوامل مجتمعة تظافرت لارسال خطاب سطحي الى الجهات الاربع.كانت فضيحته الصغرى في مخاطبة الداخل،اما الكبرى إخفاقه في نقل الحقيقة للخارج حتى فقد مصداقيته في نشرة تسعير الخضار على راسها ـ الفجل ـ و النشرة الجوية. كان يجب ان يكون الاعلام العربي، عنصر استقرار،تنوير،توعية،حمل رسالة متوازنة معتدلة، شحن المواطنيين على مدار الساعة باهمية دور الانتماء،المواطنة،الانجازات الحاضرة،التطلعات المستقبلية،اللحمة الوطنية،ثقافة المحبة،النهوض بالامة.كان يجب ان يجدد ذاته كغابة استوائية ماطرة تجدد نفسها بنفسها الا انه بقي يراوح مكانه،ويدور حول نفسه كثور الساقية. يتحدث بلغة خشبية انقضى زمنها،ويغني في طاحونة مهجورة خرجت من الخدمة لانها اصبحت خارج عصرها حتى بلغ بعضه من السخافة كطبيب يُلقي درساً عن اسباب العقم ومخاطر اطفال الانابيب لامراة انجبت دزينة من الاولاد.

اعلام يعتمد الارتجال والضجيج معتقدا ان الانسان العربي ـ المتلقي ـ اسفنجة تمتص زفر الانظمة القذرة،بعد ان تحولت "اللعبة" الى كذب بواح،تلفيق صريح،وسيلة ابتزاز واسترزاق ليس فيها محظورات اخلاقية ولا سواتر قيمية،لدرجة ان بعض كُتاب الاعمدة الذين يكتبون منذ ازيد من ثلاثة او اربعة عقود تراهم شخصيات هلامية،يحاربون الواقع السيء صباحاً، ويجلسون في احضان الحكومات ليلاً. انهم حواة يلعبون بالبيضة والحجر في آن واحد.

ينتهي عجبك منهم و اعجابك بهم اذا عرفت السبب.فمعرفة السبب يُبطل العجب. تدقق مقالاتهم بعين فاحصة محايدة وتخضعها للتحليل العلمي،فتكتشف انهم مجرد كتبة بلاغة لغوية انشائية ،يجترون افكارهم ذاتها،ويبيعون القُراء اوهاماً كاذبة ،كالاطباء الذين يصرفون لمرضاهم المصابين علاجاً وهمياً، يُعرف علمياً بـ "البلاسيبو".هو نوع من الادوية الوهمية تقوم على خداع الدماغ،لها قدرة نفسية على تخفيف الآم المريض اذا اقتنع بها مع انها في الحقيقة حقنة ملح مخفف او حبة سكر مركز مغلفة بطريقة ذكية موحية،هي في حقيقتها امرها " فالصو كالذهب الروسي". هؤلاء اعلاميون كتبة كذبة،اصحاب حناجر رنانة حققوا ثروات ضخمة لـِ "قلبهم الحقائق" راسا على عقب.مهمتهم تصغير الوطن بحجم الحاكم او تكبير الحاكم بحجم الوطن،رش خصومه بالقاذورات كما فعل الاعلامي احمد موسى في فضح المخرج خالد يوسف وعرض صوره المخلة بالادب امام الملايين بدفع من الاجهزة الامنية.اعلام هابط شانه شأن مجرم لا يتورع عن قطع زيتونة دائمة الخضرة، معمرة و منتجة بفاس مسروقة وتحويلها الى حطب للتدفئة للتنّعم بدفئها ولو ساعة واحدة ثم التبول على رمادها. اعلام بشع اصبح معملاً لفبركة الاخبار الفاضحة،حواضن لتفريخ الشائعات المبتذلة باسلوب دوني يغلب عليه الوقاحة والفجاجة.

لا يخجل القائمون عليه من اطلاق ازلامه كخيل الطغاة لدوس الخصوم بحوافرها الصدئة من دون رحمة. قلة قليلة على الضفة المقابلة،لا تتغير معادنهم لانها عصية على الاكسدة.نفوسهم كالمرايا الصافية يرون الوجود بلا غبش.رغم حصار الانظمة الشمولية،والقوانين القامعة."* وجوهٌ يومئذٍ ناضرة* الى ربها ناظرة*".

اصحاب مباديء لا يتلكأون او يترددون عن التعبير ما في دواخلهم حتى لو طارت رقابهم،بلغة بليغة خارقة للحُجُبَ والحَجْب على النقيض من قناصي الفرص الذين يبيعون دنياهم وآخرتهم،وينقلبون على مبادئهم بقليل من فضة او موقع متهالك، لا يلبثون فيه الا قليلا ثم يُكنسون الى العتبة او يركلون للشارع.

احداث باريس الاخيرة وقبلها الهجوم على مقر صحيفة شارلي ايبدو فضح العربُ العربَ عندما تعاطف الاعلام العربي و الانظمة مع الضحايا على طريقة الفزعة،لدفع التهمة عنهم اولاً واستقطاب تعاطف الغرب معهم.الى درجة ان بعض الانظمة عرضت خدماتها لمكافحة الارهاب كما حدث بعد 11 سبتمبر،مع انها دول تذبح شعوبها وتخنقها بالف طريقة وطريقة.لارضاء الغرب صار شتم الارهاب ديدنها ودينها ، وكأن العربان انفسهم لم يكتووا بالارهاب الغربي منذ ايام الاندلس حتى تدمير بغداد،طرابلس،صنعاء،دمشق وما بينهما من آلاف المجازر التي انتهكت اسرائيل فيها المحرمات والمحظورات،واحتلت ثلاث دول في سويعات.

الانجليز،الفرنسيون، الامريكيون حولوا الوطن العربي الى خرابة و المواطنيين الآمنيين الى لاجئيين،نازحيين ،مُهجّرين بينما البقية الباقية تقف طوابير امام السفارات الغربية تستجدي تأشيرة،او تركب قوارب الموت بحثاً عن حياة آمنة او موتاً رحيماً لكن الاعلام الاعمى لم ينبس ببنت شفة عن الارهاب الغربي و القى بالمسؤولية على اكتاف العربي الضحية.

لم يخرج احد ويكمل شق المعادلة الاخرى لخلق توازنٍ بين كفتي ميزان الحق والعدالة. الاستفتاءات في البلاد العربية كلها تدين الارهاب. لا تستنكره فقط بل تقف ضده وتحاربه. الاسلام دين رحمة،رسالة محبة،شرعة سلام سبق شرعة حقوق الانسان بـ 1400 عام .قدّس حياة الفرد وكرامة الانسان "ولقد كرمنا الانسان"، "وخلقنا الانسان في احسن تقويم"،حتى انه حرّم ايذاء الحيوان.

دخلت امراة النار بسبب هرة حبستها لا هي اطعمتها ولم تتركها تأكل من خشاش الارض.دخل رجل الجنة لانه سقا كلباً كان يلهث من العطش.ابو بكر الصديق اوعز الى الجند بمنع قطع شجرة،واحترام مقدسات الاخرين ومعاملة الرهبان بما يليق بمكانتهم. الامريكان اثناء غزو العراق احرقوا ثلاثين مليون نخلة.حقيقة ظلت طي الكتمان في صدور العربان.

لم يقل رجل عربي رشيد الحقائق كلها في جردة حساب كاملة لتعرف الدنيا ما فعله الانجليز والفرنسيون فينا بتشطير الخارطة العربية،وتحويل الوطن العربي الكبير الى دويلات هشة رضيعة لا تطعم نفسها خبزاً،ثم زرع "دولة الارهاب اسرائيل في قلب الامة" لإذلالها والقضاء على اية تنمية مستقبلية.

المفارقة المثيرة ان ينبري واحد منهم بحجم الفيلسوف الفرنسي المُلحد،ورائد مدرسة المتعة الفلسفية الحديثة "ميشال اونفري" ليدافع عن العرب والمسلمين، ويفرد الحقيقة كاملة غير منقوصة ويرد على ماري لوبيان زعيمة اليمين الفرنسي التي طالبت بطرد العرب والمسلمين من فرنسا. قال في عز الاحداث: المسلمون على صواب في عدائهم للغرب.انهم ليسوا حمقى. اننا نخوض حروباً في بلادهم ونجعل حياتهم مستحيلة ثم نطلب منهم ان يكونوا طيبين معنا.....ليس من حقنا فرض قانوننا عليهم.

لماذا لا نفرض قانوننا على اسرائيل.... بإسم حرية التعبير نقوم بالاساءة لإقدس و اعلى مراتب السمو عند المسلمين،على نبيهم ـ محمد صلوات الله عليه ـ .

يجب ان يعترف الفرنسيون اننا عنصريون،ففي حادثة شارلي ايبدو لم تقل فرنسا للرساميين الفرنسيين توقفوا عن الاساءة للنبي محمد ـ عليه افضل الصلاة والسلام ـ عندما رسموا نبيهم وقدوتهم في اوضاع مشينة ومخجلة،وتدعون بعد ذلك انها حرية تعبير.لماذا قالت فرنسا للرسامين انفسهم عندما رسموا شعاراً معادياً لليهود :" انه فعل مخجل" ويجب ان تعتذروا من اليهود.نحن مسيحيون،لنستهزأ بالمسلمين واليهود معاً...لماذا نستهزأ بالمسلمين فقط...عندما نقول كلمة بحق اليهود فنحن اعداء السامية ؟؟؟؟؟!.

بدورنا نقول نحن كعرب مسلمين حضاريين اننا لا نؤمن بغريزة الثأر،ولا بلغة العصابة التي تأخذ حقها بيدها، بل نقول ما قاله الله تعالى وهو احسن القائلين "إنا كفيناك المستهزئين".

قول ينطوي على وعد وعهد من الله ان تكون عاقبة المستهزيء بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام نبي الرحمة والسلام الهلاك المحتوم.والله لا يخلف وعده.