صحيفة العرّاب

فيلم ثلاثي الابعاد ؟!

بقلم الاعلامي .. بسام الياسين

 ((( آخر المسوحات الاحصائية تقول ان 18.6 من الاسر الاردنية ستلتحق بالشريحة الفقيرة،لتصل نسبة الفقر الى 33 % من عدد السكان.لا عزاء للفقراء الذين ورثوا الشقاء عن آباءهم ورضعوه من صدور امهاتهم،فحُرمّت عليهم سعادة الدنيا كحُرمة الجنة على ابليس في الآخرة ...على الضفة المقابلة، نخب الكراسي الوثيرة والمكاتب المكندشة،وذوي القمصان المنشاة كالشفرة، تضخمت اموالها من سحت،وانتفخت بطونها من سفاح، لم تبتكر لنا مشروعاً انسانياً مُنتجاً،ولم تبدع في تنمية الا انها تفننت في الاستعلاء على الناس ولو بجناحي ذبابة،في وقت ضاقت حياة المواطن حتى صارت اضيق من شرنقة ضيقة. نُخب زينت قبائحها للبسطاء ان التوابيت التي تدفنهم فيها احياء خشبها مقدود من شجر الجنة،وكادت لو تسنى لها القبض على 'ويلسون مانديلا' رجل الحرية والعدالة،وعدو التمييز لأودعته السجن بتهمة المجاهرة بالقول:' اذا اهين مخلوق امامك ولم تحس بالاهانة، فانت عديم الانسانية' ))) .اليس افقار الناس ذروة الاهانة لآدميتهم ؟. 



*** نهض من نومه فزعاً على وقع كابوس ثقيل. رآى والده يضغط انفاسه حتى كاد ان يخنقه،لتلقينه درسا في الرفق بالحيوان قائلا وشرر ناري يتطاير من عينيه كحداد يقص الحديد بمنشار كهربائي : من لا يحترم حياة الدابة ،الشجرة، الفراشة، النملة فانه بالضرورة لا يحترم حياة اخيه الانسان،ثم اخذ يعصره مثل جرذ وقع بين فكي ثعبان عاصر، فاحس ان عينيه كادتا ان تخرجان من محجريهما. سبب غَضَبُ الوالد عليه اهماله العناية بحمار العائلة،وتركه في ساحة الدار مربوطاً الى شجرة التوت الهرمة في هذا الطقس الكانوني،دون علفٍ و لا ماء. جبهات باردة متلاحقة لفحته بصقيعها.نخرت عظامه،و افقدته توازنه وصبره رغم سماكة جلده،فاخذ يدور حول نفسه بحركات هستيرية مرتعشاً،كعشبة برية في مهب ريح قارسة في سهول سيبريا،فراح يلتصق بالشجرة طلباً للحماية من شدة البرد،كأنه يفتش عن ثقب فيها ليلوذ به. هذه الحادثة اسقطت النظرية الخاطئة عند الناس بان الحمير بلا احساس بل قال حكيم القرية ان الحمار حيوان نبيل حساس اكثر من بعض الناس. 

ارتدى ملابسه على عجل،وانطلق صوب الباب،ليتّفقد الحمار.توتره العالي انساه ان يلبس حذاءه ، لم ينتبه الى ذلك الا حين لسعته برودة الارض، وتسلل الوحل الرخو من بين اصابعه. كانت المفاجأة الصادمة ان الحمار غير موجود في مكانه.اندفع كالمجنون،بحثاً عنه في الزوايا .جال ببصره في كل مكان رغم العتمة الحالكة غير مكثرت بالطين الذي غطس فيه.راح يتّلمس المكان بشغف كانه يلمس يد انثى اول مره، لعلها تقع على طراوة جسد الحمار او تلامس ذيله الغض،وعلى خط موازٍ كان يُشنّف اذنيه لعله يسمع حركة تعلن عن مكانه.عملية البحث المضنية باءت بالفشل.رجع ادراجه يندب حظه،ورمى جسده في زواية غرفته.وما هي الا هنيهات قليله حتى شعر بالبرد يجمد اطرافه، اشعل مدفئة الحطب بحرفية قروي متدرب. 

تأمل اللهب المتراقص امامه،لعله يفتح كوة في مسألة الحمار،او قضية الاستحمار. قَلًبَّها في ذهنه. اين يمكن ان يذهب حمار في مثل هذه الليلة الماطرة الباردة ؟!.وضع عدة احتمالات للمواقع المحتملة ان يلجأ لها في مثل هذه الظروف، ،فيما الامل ما زال يرواده في العثور على ضالته،خاصة انه جرب قانون الاحتمالات ونجح بالوصول الى مبتغاه في تسرب بعض الصيصان والخرفان.ارتدى حذاءه الطويل الذي اشتراه مؤخراً من البالة. تناول مصباحاً يدوياً .انطلق ثانية في عملية مسح للساحة الواسعة شبراً شبرا.صُدم من البداية، لا بقايا لـ 'روث'، و لا اثر لحوافر على ارض الطينية.زفر من خيبته،و قال محدثاً نفسه : ' ليلة سودا زي قاع الكيله'...'لا، لا،انها ليلة مطينة'،وقفل راجعاً ثانية الى المنزل لاقتناعه ان الحمار خرج خارج اسوار الساحة،ومن العبث مواصلة البحث. فعزا نفسه ان الاقمار الصناعية والغواصات البحرية لم تستطع العثور على الائرة الماليزية فكيف استطيع العثور على حمار بمصباح يدوي. 

تناوشته الافكار السوداوية والمفرحة في آن واحد على قاعدة ـ اخي ابو المهند التفاؤلية ـ ثمة ضوء في نهاية النفق ...ربما اشفق احد الجيران على الحمار وسحبه الى زريبته الدافئة، ريثما يمر المنخفض ويعيده الى مربطه ؟!...ربما جاء عابر سبيل وفك وثاقه حزناً على حالته المأساوية، ليجد الحمار ملاذاً دافئاً،و يلتقط رزقه ثم يعود الى اهله؟!...ربما، ربما ربما،ثم لمعت في ذهنه فكرة لصٍ سرقه،خصوصاً بعد انتشار حوادث السرقة في المنطقة، لكنه ما لبث ان استبعدها.ماذا يفعل لص عصري بمخلوق خرج من الخدمة العامة، و اصبح عالة على غيره.فظهره لا يُركب،ولحمه لا يُؤكل،وضرعه لا يُحلبْ. الحمار مجرد كمبارس لتعبئة فراغ الصورة في المشهد.... مَنْ هو الحمارُ الذي يفكر بسرقة حمار؟!. المزارعون انفسهم اعتقوا حميرهم،و منحوها الحرية ،ليس إنسانية فيهم ولا صحوة ضمير بل ان تكاليف الاعلاف فاقت قدراتهم...السرقة فكرة سخيفة تثير الضحك!!!. ضحك رغم سوداوية الموقف وتمتم قائلاً : مع مطلق احتقاري لعقليتي فانا متخلف التفكير مثل رجل يهجر امراته الجميلة ويطارد ساقطات البارات. 

اذن اين ذهب الحمار ؟!. المطرود لا يخرج من بيته في مثل هذه الايام العصيبة. تدحرجت دمعة على خده، مسحها بطرف كمه. لا يهمه الحمار....ما يهمه رضا والده الذي حرص طيلة عمره على طاعته طاعة عمياء،كجندي مخلص لا يعصي اوامر سيده،وينفذها دون سؤال.... السؤال الذي بقي بلا اجابة هل ضاع الحمار ؟!. فرضية هي من رابع المستحيلات. استحالة مستحيلة ان يضيع حمار منذ ان ركب سفينة نوح والحمار مضرب المثل في الاكتشاف . الانسان العاقل البالغ الراشد عُرضة للضياع اما الحمار فلا . لقد كان عبر التاريخ بوصلة الانسان في عبور الطرقات الوعرة،و دليل العلماء في إكتشاف الغابات الكثيفة. كبارالعلماء كانوا يمشون خلفه بطريقة التتابع ويحتذون في سيرهم ببصمات حذوته. خبرته موثوقة. من هنا حصل على الريادة في هذا المضمار،وعمل في هندسة الطرقات / قسم التخطيط .حاز على ثقة الجميع ، فالرائد لا يكذب اهله.تباً للزمن،خرج من الخدمة بعد ان كان 'google earth ' زمانه في تحديد المواقع.آآآه... ـ دنيا ما دامت لابي زيد ..لو دامت إله ما وصلت الى غيره ـ. 

خطرت في باله فكرة جهنمية بان يعلن عن فقدان الحمار في اوسع الصحف اليومية انتشاراً..ابتهج للفكرة الذكية، لكنه تراجع عنها.اسعار الاعلانات في الصحف تضاعفت اضعافاً مضاعفة، وهو لا يملك ' شروى نقير'، كما ان الحمار يعاني من جرب في المنطقة الواقعة تحت ذيله. لذلك لا يستحق مغامرة اعلانية،حتى لو توفر المال...الاعلان شيكون نكتة الموسم....' جائزة قيمة لمن يعثر على حمار لا يساوي ثمن الاعلان' ـ تجارة حجا عندما عثر على 'تعريفة مخزوقة' فلحمها بشلن.

العائلات الموسرة تعلن عن فقدان كلب مؤصل،في رقبته سلسلة ذهبية، مدون عليها اسمه،زمرة دمه ،رقم هاتف'العيله الكريمة'،اما حمارنا ـ يا حسرة علينا عليه ـ لا يحمل اياً من المغريات التي تشجع على البحث عنه. العكس صحيح،الناس تطرده اينما حل صار ـ مرفوضاً اجتماعياً ـ كمتقاعد يبحث عن مكان يقضي به نهاره للقضاء على ملله، ناهيك عن اسراب الذباب التي تحوم حوله،وتتغذى على قذارته،اذ ان غسل شاحنة كبيرة مع مقطورتها اهون من تنظيف حمارنا. فمنذ ولادته حتى ضياعه لم يعرف جلده الماء. 

يا رب ماذا افعل ؟. ان روح والدي قلقة على غياب الحمار، ولن تهدأ حتى يعود الى مربطه. تُرى ماذا اخبره ان عاد الليلة في الحلم،وسألني اين الحمار ؟!. كان ـ رحمه الله ـ يحنو عليه كما يحنو عليَّ،واحياناً يربت على ظهره وهو يقول لمن حوله : لم ار في حياتي جحشاً اربط جأشاً من جحشي ؟!. هل سأكذب عليه، و ادعي انه ينعم بالدفء ويأكل حسب لائحة الطعام التي وضعها الطبيب البيطري؟.هل يصدق تعهدي بانني سازف له 'اتاناً'رقيقة، ساحرة في بداية فصل الربيع ليكمل نصفه الآخر، تكون حديث حمير القرية جاذبية،. زواج بعيداً عن الغرض والمصلحة وليس 'زيجة ستر العورة' السائدة بين الناس هذه الايام واستغلال اللاجئات القاصرات من لدن العواجيز الاثرياء؟!. 

والدي لماح،مات ولم ينجح احد في خداعه حياته،فكيف تضحك عليه في موته.... بإمكانك ان تكذب على الاحياء لانهم سجناء اجسادهم المادية اما الاموات فاجسادهم اثيرية، يرون الحقائق على ارض الواقع كما هي بلا تزييف ،ويعرفون ما يدور خلف الجدران من منكرات فاضحة...لا حواجز تحجزهم و لا عوائق تحجب بصائرهم....انهم نورانيون.الجسد الانساني حجاب يحجب' الرؤيا النورانية'، ويمنع 'الرؤية البصرية'،بينما الجسد الاثيري يخترق الاشياء كالاشعة السينية.احس بتعب شديد من رحلة البحث عن الحمار ومن حواره الداخلي.

ذهب في اغفاءة رغماً عنه، فرآى طيف والده. إرتعشت اوصاله لكن خوفه تبدد عندما شاهده يهز براسه و يحييه تحية ودودة .فقال في نفسه ـ الحمد لله ـ انه نسي موضوع الحمار،الا ان سحنته انقلبت 180 درجة.انقلاب كطقس شباط مع اننا في كانون الثاني فقال بصوت جهوري كالرعد : ـ يا هامل ـ من اين لك كل هذه البلاهة ؟!. ...'سّلم لي على الحمير إلي زيك'...منذ متى كان عندنا حمار ؟!. جدك مات وهو يحلم بامتلاك 'بردعة'،ولم يحصل على ـ خيط بابرة ـ،اما انا والدك ـ ابو ندهتين ـ،عاركت الحياة بكل طاقتي،و تصاغر حلمي حتى صار بحجم 'حذوة'. و للاسف رحلت عن سبعين سنة امضيت نصفها حافياً. 


ان تنهق ـ يا ولدي ـ حتى تصاب بالفتق لا احد يهتم بك، لكنهم يقطعوا اصبعك،و يدحشوه في'فمك' ان أَشّرت عليهم، و صرخت بالحقيقة : ان مشكلتنا في الحرامية،غياب العدالة الاجتماعية،تكافؤ الفرص،الديمقراطية الحقة، الحرية المطلقة.انت لست ' هرقل' لتفتدي الناس بنفسك وتذهب للمحرقة وحدك،ولست 'نبياً' كسيدنا المسيح تحمل صليب الآلآم،وعذابات الامة على اظهرك.انهض من نومك .ـ فواللهِ ـ، ليس لك في دنياك الا رحمة ربك ،وفي وطنك سوى ذراعك لتدفع بها الجوع عن نفسك وعيالك. طبيعة الاشياء كما أَحكم اللهُ نظامها وتنظيمها،انه خلق الحمير لنركبها،لكن اولاد الحرام قلبوا المعادلة،و جعلوا منا حميراً ليركبوها.