صحيفة العرّاب

سرقة الذاكرة الوطنية

 بقلم الاعلامي .. بسام الياسين

 

((( لن تتوقف احلامي بان يكون هذا الوطن جنة الله على الارض،لا عزبة فاجر او مزرعة تاجر،فلا تعبثوا فيه ولا تتلاعبوا به.اذا كان الوطن للجميع وفوق الجميع،فمن حق الجميع معرفة جميع المتورطين من حرامية المسكوكات ))) .

 في الزمن الخلاسي/ الهجين،تُغتال الابجدية في دهاليز مُجمع اللغة العربية،تشيخ القصيدة في مخيال الشاعر الفحل قبل ان تتفتح اكمامها، يستدير بدرها،يكتمل بهاءها.لا غرابة،ان شابَ الشبانُ قبل الاوآن من" قلة دين" اهل هذا الزمان،وقصصهم المشينة التي تندى لها جباه الرُضع في الارحام.ضاد لغتنا العربية، صفتها الفرادة...علامتها الفارقة....تُستبدل في الزمن العبري بضدها، رغم تميزها وامتيازها،وانتفاء رديفها في باقي لغات الارض.الحية منها والميتة.محرمة هي على السنة العجم لكن تجار الاوطان لو وجدوا مشترٍ لها لباعوها بثمن بخس.حاء الحب،الحق،الحرية المغموسة بالعربية حتى ركبتيها، تنقلب الى خاءٍ اعجمية . فلِما العجب...ان كنا نعيش اعجب العجب.و الى اين الهرب ان سَنَتَ الدنيا سكاكينها لنحر العرب...بعد ان باع العربُ العرب،وصاروا كومة فخار يكسر بعضهم بعضا لاتفهِ سبب.امراض اجتماعية مجتمعة غزت الجسد الوطني حين ضعف جهازه المناعي،واندثرت التعبئة الاخلاقية السليمة، يوم سيطرت ثقافة المباهاة الضحلة توأم الشعور بالنقص والدونية.

فرساننا يدخلون متاحف التاريخ، ليصبحوا تماثيل شمعية، يتصنموا تحت لافتة ـ كان يا ما كان ـ،يبيعون سيوفهم ليسدوا جوعهم بعد ان كانوا يسدون عين الشمس. واقعةُ لا تُثير احد.وضع مزرٍ على وضاعته،لم يقبل به "تجار الانتيكة"،لان الوطن بنظرهم ليس الا انتيكة.فباعوا نفائس المتاحف،رهنوا ارضها،وسمسروا على حجارتها،ليتخلصوا من وهج الذاكرة الوطنية و تدرجاتها القومية و الانسانية.كأننا لم نكن يوماً ملح هذا الارض المجبولة بدم الصحابة الاطهار،والتابعين من الاجداد الاخيار الذين حملوا راية العدل.الوطن يضج بالاوابد وخوارقها،يزخر بالعجائب وعجائبها عصياً على اعدائها.... عربي الوجه واليد واللسان...لا مكان فيه لفرس و يهود ورومان ـ مثلما كان منذ خلق الله المكان والزمان متحفاً حياً يحكي مهارة الانسان...كتاباً مسطوراً ينطق ببديع عظمة الله في عُلاه .

زوبعة الفساد يزوبعها الفاسدون لكنس كل ما هو وطني، وكشط ما علق بالذاكرة الجمعية من تاريخ مؤصل ضاربة جذوره في عمق الحضارة دون رادع اخلاقي،زاجر ديني، تأنيب ضمير. فساد عنوانه بيع ممتلكات الدولة خارج حدودها من اجل حفنة مال،بينما الرأي العام مشغول بتكديس الطعام وكأن الساعة ستقوم بعد ساعة مع انها ـ زخة مطر خفيفة،وموجة ثلج عابرة ـ،. رباه... ما جرى عندنا في " لعبة المسكوكات"، لا يختلف عن ما فعله مواطن من زيمبابوي قام بمساعدة طبيب اسنان امريكي على قتل الاسد الوطني " سيسيل" الاشهر و الاجمل في العالم.باع راسه من اجل حفنة دولارات،ما اثار غضب الدنيا باسرها،فانتصرت الشعوب الحية للحيوان المستأنس على الانسان المتوحش مطالبة إانزال العقوبة بـحق " القاتل الامريكي والخائن الوطني".

الفساد عَرَّفته منظمة الشفافية الدولية : كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق منفعة ذاتيه للفاسد او لمصلحة جماعته،بينما السارق في التعريف التربوي والنفسي،تحديداً ،يجب ان تتوفر فيه مهارات عقلية وجسدية لتنفيذ فعل السرقة على راسها الجرأة،الذكاء،شدة الملاحظة ،دقة التنفيذ وسرعته،القدرة العالية على التخطيط. دققوا كيف جاء خبر جريمة المسكوكات الذهبية،كما اوردته جريدة الغد الغراء بتاريخ 28/1/2016 : ـ ((( ....... وبينَّ المصدر ان القطع الاثرية تم استبدالها بطريقة "ساذجة" غير معقدة،وان اكتشاف عملية التزوير تمت بـ "الصدفة" ))). السؤال الاكثر سذاجة : كيف تتم سرقة كنوز اثرية عظيمة بسذاجة وتُكتشف صدفة...هل هذه نكتة ام مهزلة ؟!!!!!.

هل يجوز ان تُترك كنوز لا تقدر بقيمة سائبة فالقطة تدافع عن نفسها بمخلبها اذا أُعتدي عليها،وشجرة الصبار تُطلق شوكها اذا امتدت يد سارق اليها اما نحن فلا... يا للخيبة ؟! .هل هكذا تُدار المؤسسات الوطنية الحساسة بينما نظام الكاميرات يغطي فيلات وقصور المسؤولين وحتى البقالات المتواضعة لا تخلو من هذا النظام الذي اصبح في متناول الجميع،فلماذا تفتقر اليها مواقع النفائس الثمينة ؟!. اليست مفارقة عجيبة في ان "لصاً غبياً" يستبدل السبائك الذهبية باخرى مزورة،و يخدع الاذكياء من دون ان يلحظه احد. الاكثر اثارة ان "اللص الظريف" بلغ من ( الجهل) انه لا يعرف ان سعر السبائك ليس بذهبها بل بقيمتها التاريخية.و اذا كان الشيء بالشيء يُذكر فانني أُذكر الناس اجمعين ما ذكرته مجلة الاثار السودانية في معرض حديثها عن سرقات الاثار السودانية : ان محل عرض تجاري في لندن،عرض خاتماً ذهبياً لاحد ملوك " كوش"،سُرق من المتحف الوطني السوداني يعود لـ ( 7 ) سنة، ثمنه مليون جنيه استرليني.

في دراسة مهمة بالغة الخطورة للدكتور احمد وهدان عالم الاثار المصري،ان سرقة الاثار في مصر تعد واحدة من حلقات متعددة اذ تتبعها عمليات معقدة من التهريب،الاتجار،البيع في الدول الاوروبية و الامارات ،ويعزو د. وهدان اهم سبب للتورط في سرقة الاثار الفساد الاداري،و الارباح الطائلة التي تدرها. وهذا يعيدنا الى ما سبق من تعريف لصوص البنوك والمتاحف ومحلات الذهب والصرافة انهم على درجة علية من الذكاء والجرأة والقدرة على التخطيط. الحقيقة الصادمة ان آثار مصر وسوريا والعراق المنهوبة من المتاحف وحفريات التنقيب،استقر معظمها في اسرائيل لانها اكثر دول العالم اهتماماً بالاثار العربية لتزوير التاريخ .

الاثار ثروة وطنية،ملكيتها على الشيوع للامة...نفط اردني لا ينضب،التفريط بقطعة صغيرة خيانة للمستقبل.ما يحدث عندنا يدفعنا للقول: ان واقعنا اليوم عصي على الوصف والتصنيف وحتى الفهم،لكننا يمكن ايجازه باننا لم نطور وعينا،ولم نُعَمقّْ انتماءنا ليتلاءم مع منجزات اسلافنا العظام،فقام الجهلة بتدمير الماضي نكاية بالمستقبل.الجهاز العصبي الضعيف للقلة المُخربة المُخزية لم تحتمل ما يدور حولها من قفزات علمية وعملية خرافية،فآثرت الهبوط الى قاع بلا قاع لتعيش في الظلمة و تعشعش في الرطوبة بدل الصعود على سلم الرقي والارتقاء للوصول الى الضوء الانساني ودفئه.

ما يدمي قلوبنا ذلك الوصف الذي لخص حالنا و احولنا الذي قذفه في وجوهنا السفير الايراني في عمان قبل ايام حين قال : عندما زرت مصر برفقة الرئيس احمد نجادي نظرت من نافذة الطائرة الى القاهر، فلم ار سوى طوابير الناس تقف امام المخابز ومحطات الوقود. السفير شد نظره حالة الناس المزرية اكثر من منظر الاهرامات الفرعونية العظيمة. الحق انه على حق،وكم تمنينا لو قال لنا ماذا راى من ثقب باب ضيق افعال مسلماني في سوريا،وماذا شاهد من خرم ابرة جرائم الحشد الشعبي من بلاوي لا تٌقال في الانبار من تدمير ممنهج للقلاع الاثرية والمساجد القديمة ونهب للمتاحف،لكانت جملته مفيدة من مبتدأ وخبر،واتسمت لغته بالصدقية. السفير المدرب على اللغة الدبلوماسية تجاهل ماذا حل باثار بابل وتدمر ؟!.ا

ما مشعان الجبوري "عضو لجنة النزاهة البرلمانية العراقية" الذي طالما تغنى بالوطنية والنزاهة وثروة الشعب ومستقبل الاجيال اعترف مؤخراً امام ملايين المشاهدين على الهواء مباشرة وقال حرفياً "انا فاسد وتلقيت رشوة بالملايين من فاسد لغلق ملفه،والطبقة السياسية العراقية الحاكمة كلها فاسدة وتتستر على بعضها". للعلم هذا الفاسد هرب من العراق ايام الرئيس الراحل صدام حسين،و اقام ردحاً من الزمن في الاردن ثم غادر الى سوريا وافتتح فضائية تهاجم النظام آنذاك"،وهو الشخص الثاني بعد اياد علاوي يعترف بفساده في اقل من اسبوع. فالخوفة لا يبيعون انفسهم بل يبيعون تاريخ ومستقبل امتهم لانهم يفتقرون الى شرف الانتماء. وضع مأساوي سوداوي يقودنا الى السؤال اللغز : لماذا تحل الفوضى محل النظام هذه الايام، التخلف مكان التقدم،العنف بدل التسامح ؟!. لماذا هذا الانحلال والاضمحلال والتقهقر الى وراء الوراء ؟!

لماذا سادت وتسيدت قيم المال والمنصب والجاه على حساب الدين و الاخلاق والاستقامة ؟!. لماذا التنافس على تضخيم الذات المتورمة اصلاً على حساب المواطنة النبيلة؟!.

لماذا تتسع دائرة الاضطرابات الاجتماعية،والفضائح المالية والانتهاكات الاخلاقية،وتضيق دائرة القيم الايجابية؟!.واقع الحال يجيب على ذات السؤال، باننا نعيش حالة خوف من الراهن الحالي تشدنا الى الماضي اكثر من حالة امل تدفعنا الى المستقبل. بصراحة اكثر ما زلنا في جاهليتنا الاولى ولم تتغير فينا غير قشرتنا السطحية.نقود سيارة المانية ونرتدي بدلة ايطالية ثم نتعطر بعطر باريسي لكن ابو جهل ما زال فينا. عراة دخلنا الالفية الثالثة بلا ورقة زيتون صغيرة وليس ورقة تين عريضة تسترنا. مازال ربابنة سفينتنا هواة من الدرجة الثالثة ان لم يكونوا من الدرجة العاشرة ـ الا من رحم ربي ـ،يلعبون ويتلاعبون بنا ونحن نائمون على آذاننا. اليست لعبة الراصدين الجويين فضيحة مدوية،ولعب عيال ادت بنا الى خسائر ثقيلة، وولدّت تخبطاً في مناحي الحياة كافة،ما زاد في رفع منسوب اللاثقة بكل المؤسسات الرسمية ؟! .

هدف المتنبيء الجوي في الدنيا باسرها تسهيل حركة المواطنين،لأخذ الاحتياطات وتامين الاحتياجات لا ارهابهم وبث الرعب في صفوفهم من بعبع لم يات وان اتى فهو من ثلج سريع الذوبان،اعقبت لعبة بهلوانات الارصاد الجوية، فضيحة سرقة المسكوكات التاريخية الثمينة بطريقة "ساذجة". ضربتان في اسبوع نزلتا على راس المواطن فاختل توازنه،فندب حظه على قلة بخته .المهدي المنتظر ـ قدس الله سره وعجل فرجه ـ اوشك على الخروج من سردابه الطويل على ذمة بعض "المتنبئين" من المستشيخين ليملأ الارض عدلاً بعد ان مُلئت جورا،ونحن ما زلنا نسأل السؤال الازلي: الم يأن الآوان لاعادة تقييم اداء مؤسساتنا المهزوزة وتقويم مسؤوليينا المعوجين ؟!.

صرخة يطلقها المعذبون في الارض من اهل القاع الى اهل القمة لعلهم يسمعونها ـ لو مرة ـ اوقفوا المهزلة.