صحيفة العرّاب

منسف اهل الميت و آل الروابدة

بقلم الاعلامي .. بسام الياسين

((( الطُفيليون الجدد... تيار جارف برز مؤخراً يسعى لاحياء مذهب قديم تزعمه الطفيلي اشعب. كان يغشى الولائم دون حياء.عنوانه اليوم التهافت على طعام الاموات من غير دعوة او سابق معرفة.التيار اخذ يزداد حضوره في الجنازات،و يتكاثر منتسبوه في الانتخابات والاعراس.مشكلته تكمن في غموض موقفه السياسي...هل يتقدم رواده المجددون بطلب ترخيص له كحزب او " كوتا برلمانية " لتمثيل اعضائه ام يبقى فالتاً حسب توصية المعلم الاول لتلاميذه ـ كل واحد وما تطاله يده من شراب و ثريد ـ....مهداة لابن العم المستنير "حيدر عمر القعدان" لِما راى و رايت مثله من "جرائم اكلٍ". الخوف ـ كل الخوف ـ في قابل الايام ان يشلحوا الميت كفنه او يسلخوا جلده ))).

***

ما نطرحه ليس شطحة شعرية بل محاكمة عقلية امينة لظاهرة جلية جاهلية. مفتاح المعرفة تبدأ بتقيّيم الذات بميزان عدلٍ لمعرفة ما لك و ما عليك،تجنباً لتصغيرها او تكبيرها ثم العمل على تطهيرها وتطويرها للافضل." اعرف نفسك " شيفرة الحل اطلقها الفيلسوف سقراط، و" رحم الله امرىءً عرف قدر نفسه فوقف عنده" اوصى بها العادل عمر بن عبد العزيز لابنه كي لا يتجاوز حدوده،ولا يتطاول لانه ابن الخليفة.معرفة الذات ضرورة للتأكد من سلامة النهج،وضوح المسيرة،ونقاء السيرة.فكانت الثورة على الذات اعظم الثورات،ومجاهدة النفس على راس اولويات الجهاد ذروة سنام الاسلام ؟.

فاذا لم يُحصّن الانسان ذاته / قلعته الداخلية لن يتمكن من مقارعة عدوه.لذلك قيل عليك ان تعود الى ذاتك قبل ان تعود الى بيتك.هنا تتجلى عظمة رسول البشرية محمد صلوات الله عليه حين قال للصحابي الحصين بن عبيد : " قل اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي". ذلك ان صاحب الشخصية العاقلة المتزنة،هو مَنْ يُنمي جوانبه الايجابية النافعة ويتخلص من سلبياته المؤذيه. ثغرات مقيتة في سلوكياتنا الاجتماعية،وانحرافات مشينة عصفت بمجتمعنا، ادت الى خروجه عن جادة الصواب،وعادات مذمومة تنخر جذوره يتعلق بها المتعلقون، رغم انها موروثات جاهلية ناضل اهل الجاهلية انفسهم للتخلص منها،بل هناك عادات تستدعي السخرية لا تخلو من دلالة على بؤس واقعنا.الغرابة في التمسك بها و كانها اقدار نزلت من السماء ليس بالمستطاع ردها.تجد العالقون فيها يفرطون بالدفاع عنها كأن الحياة لا تستقيم من دونها.فمنسف الميت عادة مستقبحة،وبدعة مستحدثة تجذرت في مجتمعنا بقوة العرف الاجتماعي، ليس لها سند شرعي ولا دليل نصي.فوق هذا وذاك ليس لها مردود اجتماعي بل العكس اصح،هي سلوك مرذول لما تنطوي عليه من اسراف لا معنى له و " كب النعمة" بعد اللغوصة فيها في اقرب حاوية.نتائجها لا ثواب للميت،و اعباء مالية جسيمة يتكبدها اهله في اعوامنا المهلكة ،و تحميلهم ديوناً فوق مصيبتهم،لإطعام حشود غفيرة جاءت من دون دعوة او سابق معرفة لـ " تناول الطعام" لا للتعزية.

ظاهرة ذميمة تتسع يوماً بعد يوم، فما ان يتناهى الى اسماعهم خبر وفاة حتى يبرمجوا انفسهم.هم يحرقون المراحل،يختصرون الزمن والمسافة.لا يذهبون للصلاة على ـ المرحوم ـ ولو رياءً، ولا الى المقبرة لتقديم واجب العزاء نفاقاً بل يتجهون مباشرة الى ـ سرادق العزاء،الصيوان،المضافة،الجمعية،الصالة ـ،بينما بعضهم يجرجر اولاده معه.مشهد اصبح مألوفاً لا يجوز غض الطرف عنه رحمة بالميت و اهله.اصل الحكاية في طعام الميت ان يبادر الاقارب، الاصدقاء،الانسباء،الجيران الموسرين تقديمه لذوي الميت المقربين وضيوفهم.فعندما علم الرسول صلوات الله عليه بخبر استشهاد سيدنا جعفر رضي الله عنه في معركة مؤتة قال : " إصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد آتاهم ما يشغلهم" اما ان تنقلب الآية ويصنع اهل الميت طعاماً لإطعام جماهير غفيرة من ذوي البطون " الجربة" فهي المصيبة. الموت ليس عرساً لتقديم الولائم ولا مناسبة للضيافة بل هو نازلة نزلت بذوي الميت.فبدل الرحمة بهم والشفقة عليهم بتخفيف حزنهم ومواساتهم،تجدهم يحولونها عليهم الى فاتورة كارثية مكونة من اربع خانات حسابية،في وقت يحارب فيه المواطن للحصول على " فرخة" لعياله.الكل يعرف ان طعام الميت مكروه حتى للاغنياء،لدرجة تحريمه عند بعض العلماء.رب قائل يقول : ان الفقر وراء اتساع هذه الظاهرة. اقول هذا ادعاء باطل ومردود،فالفقراء اهل عفة وحياء : " يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافا......". 

لا والله ليس الفقر بل الجَشَعْ.... فالجَشِعْ يبحث عن الفرصة لاقتناص اللذة و اشباع الرغبة باي وسيلة بينما الفقير يحترم نفسه،ويجاهد للتحرر من شهواته،حيث ان تركيبته النفسية،وجِبلته الاخلاقية تنأى به عن ما يريق وجهه او يكدّر غيره.الانسان الجشع كالبالوعة كلما شبع ازداد جوعاً،اما الفقير كلما ضاقت به الدنيا ازداد صبراً وانفه.فالصعوبات الحياتية الكبيرة تخلق الارادات الصلبة. " منسف الميت " احراج للفقراء لا يقع في باب الضيافة او الكرم بل منهي عنه.ديننا الاسلامي دين التراحم والتكافل،دين الوسطية " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" . لا اسراف و لا تقتير،لا تطرف ولا تقوقع،وقد نهى عن المغالاة و الافراط حتى في العبادة.فشتان بين الحكمة الالهية العادلة التي تحض على التوازن و النهج المستقيم وبين الحماقة المجتمعية الساكتة على عادات ممجوجة، كاولئك الطفيليين الذين يتلقفون بفرح خبر وفاة،لدعوة انفسهم بانفسهم للمشاركة في الوليمة. لا يتورعون عن شتم الميت و اهله اذا ما قصروا بتقديم المناسف المجللة باللحم،التمر المرشوش بالهيل،المياه المثلجة،القهوة التي لا تنطفيء نيرانها. يا ناس...

اليس بينكم رجل رشيد... ثلة مستنيرة.... مجموعة طليعية تقلب الطاولة وما عليها،لفتح صفحة جديدة تتساوق مع القرن الواحد والعشرين،قرن الفتوحات العلمية المذهلة و الدولة الحديثة،زمن الخروج من صندوق العادات البائسة الى فضاء الكمالات الانسانية الراقية ؟!.

هنا يكون الوقوف اجبارياً امام موقف راشد ورشيد سجله " آل الروابدة" الكرام في سابقة غير مسبوقة تُسجل لهم في سجل النبلاء جراء مقتل ولدهم، باطلاق شعار قانوني،انساني،حضاري،شرعي،و اخلاقي : ـ .... " الجاني غريمنا،والقضاء هو الفيصل". موقف ذروة في العقلانية، قمة نورانية الحكمة....مجانبة للعقل و المنطق ان يتحمل مئات الاشخاص وزر انحراف منحرف او يدفعوا ثمن نزوته او سورة غضبه،و احيانا تحت تأثير كحوله....جرعة مخدره... بلطجته. ان اي فعل ايجابي هو قيمة مضافة الى قيمنا النبيلة،ودفع للوراء لسلبية كريهة...هو اعلاء للقانون،تضييق دائرة الانفلات،تقليص دائرة الكراهية،الاطاحة بالدوافع الثارية. ما ندعو اليه ثورة بيضاء لتحطيم اصنام العادات السيئة والخلاص من " المسكوت عنه" فالجميع يكتوي بها.في الجاهلية تداعى العقلاء الى حلف فضول لنصرة الحق والوقوف مع المظلوم،فلماذا لا نتداعى لمواثيق شرف تتصدي لعادات اظلم من ظالمة.سؤال جدلي مطروح في الشارع : ـ اين رؤساء الوزراء السابقون؟!.

اين حكمة حكماء مجلس الاعيان ؟!.

اين ذوي الحناجر الرنانة في مجلس النواب ؟!. ا

ين قادة الراي،الفكر،الاحزاب،الائمة؟!.

اين مدراء الامن والمخابرات السابقون ؟!.

اين علماء النفس،الاخلاق،التربية ؟!.

اين دكاترة الجامعات ؟!

اين اهل الخبرة والتجربة ؟!.

اين المميزون المتميزون اصحاب الامتيازات والرواتب الضخمة.اين هؤلاء...اولئك...عما يحدث بين ظهرانينا،مما سيكسر ظهورنا ان لم نتداركه بالسرعة القصوى ؟!.

الحق اقول لك ـ يا بن العم ـ اننا نعيش مسرح اللامعقول.انك ترى جُموعاً و لا ترى احدا.الجميع يلوذون بالصمت ولكل واحدٍ تبريره للنجاة براسه و اخلاء المسرح للهواة للعب ادوار عبثية يشيب لها الولدان علماً ان العمل الانساني،الاصلاحي،التنويري التثقيفي،الوطني لا يحتاج الى رخصة عمل كوافد او موافقة امنية كلاجيء.فاين انتم من قول قدوتنا رسول الله صلوات الله عليه ـ : ( ان قامت على احدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها ؟!.

الحق اقول مرة ثانية وثالثة وعاشرة : ان حالتنا مزرية كما لخصها حكيم فيلسوف في ثوب بلاغي بكلمات قليلة : ـ ( مقابل كل "فردانية مُعطَّلة" في الوطن العربي ثمة "انانية مُفعّلة" ).