د. موسى برهومة
غطى رحيل الفنان اللبناني زياد الرحباني، الأسبوع الماضي، على كل ما عداه من أخبار ثقافية أو سياسية. كان الحدث الأبرز والأكثر تداولاً على المنصات كافة. حزنَ على رحيله محبوه، كما فعل منتقدوه، واتفق الفريقان على أنّ فقدانه خسارة فادحة.
وكما ظَلم الرحباني كثيرين، في أثناء حياته، بنجوميته الساطعة، وفرادة حضوره، وسخريته الإبداعية الجامحة، فقد ظلمَ في الوقت نفسه موهبته، وصدّع مصداقيتها، حين تبنى مواقف سياسية استخفّ فيها بمشاعر الملايين ممن عشقوا فنه، وخبأوا أشرطته في أماكن سرية لا يصلها العسس وزوار المساء في البلاد التي أغدق زياد في مدح زعمائها.
وليس زياد أولّ الذين اقترفوا ذلك، ولن يكون آخرهم، فقد سبقه وسار في معيته مثقفون وفنانون كبار أنكروا حق الجماهير في الثورة والحرية، وانحازوا إلى البراميل المتفجرة، وليس أدونيس وسعدي يوسف ودريد لحام، سوى نماذج على من آزروا الطغيان بذرائع شتى، منها عقلية المؤامرة، وعدم نضوج الظرف الموضوعي، ومنهم من ارتدى لبوساً دينياً أو طائفياً، ومن هؤلاء مَن ارتدّ إلى جذوره المصلحية الضيقة، وفضّل امتيازاته على أفكاره.
'عندي ثقة فيك'!
لقد قيل في وداع زياد الرحباني، الأسبوع الماضي، ما لم يُقل في فنان آخر من جيله، وكان الناعون، الذين أشرقوا بالدمع، من سائر المِلل والنِحَل، وقالوا في حقه ما يستحقه، ولم يجاوزوا الحقيقة بأنّ صاحب أغنية 'عندي ثقة فيك' التي غنتها فيروز (بلا ألقاب) فنان نادر، ومثقف فريد شقّ المفهوم المتداول عن المثقف، لأنه كان مخلصاً للأفكار الثورية، ومنحازاً للعدل، ومدافعاً عن الفقراء، وهازئاً بالطغاة والفاسدين. كان زياد آنذاك ثائراً حقيقياً، بريئاً، نقياً، وكان الخيطُ بين الخير والشر بائناً بينونة كبرى في ناظريه ووعيه.
نقول (كان)، لأنه لم يستمر في طريق الحق، وسرعان ما انقلب على نفسه، وأصابته لوثة المثقفين المأزومين الذين ذكرنا بعضهم، فلم يعد 'العقل زينة' بل صار لعنة ووبالاً، وأضحى، مستثمراً شعبيته وموهبته، يدافع علانية عن نظام لم يشهد التاريخ مثيلاً لتوحشه، مشيداً بقدرة زعيم ذلك النظام المخلوع والفارّعلى الصمود، ومردداً المعزوفة المشروخة، (مثل أي مثقف شبّيح) بأنّ سقوط الأسد سيؤدي إلى فوضى عارمة في المنطقة، لأنّ فاقئ عيون الأطفال، ومنشئ السجون و'الصيدنايات'، ومُلقي الكيماوي على البيوت الآمنة في الغوطة الشرقية بدمشق، يجسد، بحسب زياد، قوة التوازن الضرورية لمنع حدوث الدمار والانهيار، وكأنّ حُكم الأسديْن (طيلة أكثر من 50 عاماً) حوّل سوريا إلى واحدة من الدول الاسكندنافية!
وبلغ عشق زياد للذين تغمست أياديهم بدماء الأبرياء أن ورّط والدته العظيمة في أزمة سياسية، عندما زعم أنّ 'فيروز تحب حسن نصرالله كثيراً'، فهو يعرف مكانة فيروز في الوجدان العربي، بل الإنساني، لذا راح يستغل هذا الرصيد الذي لا ينفد، في استثمار ظلامي، هدفه قتل النور، والإجهاز على حفنة الضياء التي تسند ما تبقى من أمل.
'لو كنتُ مكان الأسد..'
لقد وقع صاحب 'بما إنه' في غرام زعماء الميليشيات، فبعد أن هلل لتدخل حزب الله في سوريا ودعمه النظام الباطش، أعلن 'لو كنت مكان الرئيس الأسد لفعلت ما يفعله الآن'، واصفاً الثورة السورية بأنها 'ثورة تكفيريين'، وأنه يؤيد 'خيارات حزب الله حتى لو ذهب إلى مصر'. لقد وصل إيمانه بحزب الله أن صرح بأنّ 'مَن يهاجم فيروز وحسن نصرالله يدافع عن إسرائيل'، واصفاً نصرالله وفيروز بـ'أهم شخصيتين في لبنان خلال الستين عاماً الماضية'.
أكثر المطعونين بخنجر زياد المسموم كان الطلبة والشباب ممن تغذوا على تمرد الرحباني المنشقّ واعتنقوه، لذلك لم يسكتوا على هذه الخيانة، فرفعوا خلال حوارية نظمتها الجامعة الأمريكية في بيروت يافطات 'استقبالية' لاذعة كُتب عليها 'ساقط إنسانياً' و'عايشة الثورة بلاك وبلا تنظيرك يا ولد'، و'شي فاشي'.
هل يستحق زياد كل هذا التقريع العنيف. ألا تمحو إبداعاته سقطاتِه السياسية وزلات لسانه؟
لو شاء الباحث النزيه أن يتخلص من عاطفته ومشاعره الوجدانية تجاه فنان بوزن زياد الرحباني، فإنه، على الأرجح، لن يتغاضى عن تصريحات مَن أعلن نفسه 'شيوعياً مدى الحياة'، لأنّ تلك التصريحات السياسية قوّضت البنيان الذي عمّره وشيده بالمصداقية والثقة. فمن الصعب أن يتقبل الجمهور رجل دين يبيع المخدرات ويروج لها ويقدمها للناس على أنها البلسم الشافي لكل البلاءات. الثائر أو المبشّر بالثورة أشبه برجل دين نزيه، أو داعية نظيف اليد، طاهر القلب واللسان. وإن ثبت التناقض، انفضّ الأتباع عن 'مرشدهم' وهو يذرفون دموع القهر والخذلان.
هل هذا ما حدث مع زياد؟ هل من المتوقع أن تغفر له الجماهير، وتجد له أعذاراً، لأنه فنان، ويجوز للفنان ما لا يجوز لغيره، فله سقطاته وشطحاته وتقلبات مزاجه التي تنعكس على مواقفه من الحياة والأفكار والأشخاص حتى لو كانوا زعماءَ قتلةً وهمجيين؟
المصالحة بين الزياديْن
لا يستطيع الإنسان المتّسق أن يخون ذاكرته، ويقيم مصالحة بين زياد 'أنا مش كافر' وزياد الذي يقول إنّ من حق النظام السوري أن يدافع عن نفسه 'لآخر تكة'. إنّ المواءمة بين الزمنين ضرب من الجنون، فزياد العاري من الضغائن الطائفية والحسابات السياسية، ليس هو نفسه زياد الذي يؤيد التدخل العسكري الروسي في سوريا، ويناقض نفسه عندما يصرح: 'لا أحد يدافع عن نظام الأسد'. زياد القديم أشد ولاءً لأفكاره من زياد الذي حرّض الناس على الثورة، ولما ثاروا رماهم بالحجارة والسخرية والشتائم.
زياد ورث عن فيروز الموهبة والفرادة على مستوى الفن، لكنّه ورث التلاعب بالمشاعر والأفكار من دهاقنة السياسة وكهنة المؤامرات. ظن نفسه زعيماً سياسياً، فخسر السياسة ولوّث فنه، وأساء إلى عائلته، وخان عشاقه الذين بكوه بمشاعر مختلطة بين العتاب والحزن.
ولكنّ العشاق يغفرون. أليس كذلك؟
لئن غفر العشاق، فالتاريخ لا يغفر. والغصة الناجمة عن الخذلان تبقى عالقة في الحلق، مهما تقلّبت الأزمان، وتعاقبت الدهور.
أما ما خص المقارنة بين زياد وفيروز، فإنه يكثف العبرة المستفادة من كونك نجماً يضيء ويخفت، أو أنك سماء مأهولة بالمجرّات. في الأولى أنت زمن عابر، وفي الثانية أنت أبد