صحيفة العرّاب

غزة بين ظلال الأمم وحدود النار

 

مالك العثامنة

 لا شيء أبرد من القرارات حين تكتبها العواصم البعيدة على جراح المدن المحترقة، وها هي واشنطن تعود لتجرب وصفتها القديمة، لكن على أرضٍ أكثر هشاشة، وبأدوات جديدة تحمل أسماء مألوفة: الأمن، الاستقرار، إعادة الإعمار.


فمسودة القرار التي قدّمتها الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن لإقامة قوة أمنية دولية في غزة – حسب تسريبات شبه مؤكدة- لا تبدو مبادرة إنسانية كما تُقدَّم، بل مشروع إدارة جديدة للصراع، تلبس ثوب الوصاية الدولية وتُدار بخيوط أميركية من الخلف.

القرار المقترح يمنح تلك القوة صلاحيات واسعة تحت اسم “هيئة السلام”، لفترة انتقالية قد تمتد لعامين أو أكثر. مهامها المعلنة: تأمين الحدود، حماية المدنيين، تدريب شرطة فلسطينية، وتفكيك البنى العسكرية في القطاع.

لكن خلف اللغة الدبلوماسية الباردة، تكمن معادلة سياسية أدق: من سيحكم غزة، ومن سيقرر متى تنتهي هذه المرحلة الانتقالية، ومن يضمن ألا تتحول إلى واقع دائم؟
المسودة الأميركية ستكون وصفة جدل هائل في مجلس الأمن، روسيا ترى في المشروع محاولة لتكريس الهيمنة الأميركية، وتلوّح بحق النقض. الصين ترفع شعار “الحل السياسي لا الأمني”، أوروبا تؤيد بحذر وتطالب بإشراف أممي حقيقي لا أميركي صرف. أما المجموعة العربية، فتمسك العصا من المنتصف: لا رفض صريحا، ولا قبول دون ضمانات تُبقي القرار فلسطينيًا وعربيًا، والنتيجة المرجحة أن يخرج القرار بصيغة رمزية أولًا، إعلان نوايا لا فعل، قبل أن تبدأ معركة التفاصيل على الأرض.

إسرائيل، كالعادة، تمارس ازدواجية حذقة، توافق لفظيًا وتتحفظ عمليًا، وتريد قوة دولية تضبط غزة دون أن تقيد حركتها العسكرية، وستصر على التنسيق الكامل مع جيشها، وعلى أن تبقى لها اليد العليا في أي تفويض أمني، خشية أن تفقد السيطرة على إيقاع غزة، وفي الداخل الإسرائيلي، سيتحول النقاش إلى جدل بين حكومة تبحث عن غطاء دولي يخفف عنها عبء الاحتلال، ومعارضة تخاف من أن يكون ذلك الغطاء بابًا لتراجع الردع.

الأردن، بخبرته المتراكمة في كل حيثيات الصراع، دوما يقرأ ما بين السطور، فهو لن يكون جزءًا من القوة الميدانية، لكنه مرشح لأدوار خلفية تتسق ودعم الفلسطينيين: تدريب الشرطة الفلسطينية، وتنسيق الدعم اللوجستي، والمساهمة في جهود إعادة الإعمار، فعمّان تدرك أن الخط الفاصل بين المساعدة والوصاية رفيع جدًا، ولذلك ستتمسك بدورها كجسرٍ عربيٍّ متزن، لا كطرف في لعبة النفوذ.

أما مصر، فتتأرجح بين القلق والفرصة. القرار يخفف عنها العبء الأمني الثقيل في سيناء والحدود، لكنه يهدد في الوقت ذاته باقتطاع جزء من احتكارها التاريخي للملف الفلسطيني، لذا ستسعى القاهرة لتثبيت حضورها داخل لجنة الإشراف المقترحة، وتحافظ على تنسيقها الوثيق مع عمّان حتى لا تفقد زمام المبادرة.

القرار، إن مرّ، لن يطفئ النار فورًا، لكنه سيعيد رسم الخرائط ويمنح واشنطن أداة جديدة لإدارة المشهد دون أن يغيّر جوهر الأزمة، فغزة لا تحتاج مزيدًا من القوى المؤقتة، بل إلى أفق سياسي حقيقي يعيد للفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم، ويحوّل الحديث من ترتيبات أمنية إلى حلّ سياسي.

ذلك وحده ما يمكن أن يُنهي الصراع، أما ما سواه فليس سوى إدارةٍ للأزمة وتأجيلٍ لانفجارٍ جديد.

'الغد'