يمر الأردن في هذه المرحلة، بواحد من تلك الأزمنة الصعبة التي تتجاوز الخطاب والتصريحات، ويتدرج بهدوء وحذر شديدين في بناء تدريجي هادئ، يعيد تعريف موقع الدولة، في إقليم دخل مرحلة إعادة تركيب مصالحه وفضاءاته وتحالفاته، فمن لا يحدد مكانه الآن، سيجد أن الآخرين قد حددوه له، والأردن على كل الصعوبات التي يعاني منها، لديه تلك الثقة الكامنة، بأن مكانه لا يأتي بالصدفة ولا بالتنازل، بل بإعادة بناء قدراته الداخلية، ثم ترجمتها إلى حضور خارجي محسوب، وهو المطلوب بقوة اليوم.
من هنا يصبح برنامج التحديث الاقتصادي، أكثر من إطار حكومي، أو وثيقة سياسات اعتاد الأردنيون سماع ضجيجها، دون نتائج حقيقية في غالبية الأوقات، فالبرنامج هذه المرة– ويجب أن يكون كذلك فعلا- محاولة لإعادة تعريف وظيفة الدولة نفسها، فالاستقرار لا ينتج من إدارة الهدوء، بل من بناء القدرة على توليد الفرص، وتوزيع الموارد بعدل، وصياغة علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، علاقة تقوم على الشراكة لا الوصاية، وعلى المشاركة لا التلقين، وهذا التحول لا يحدث بشعارات، بل بعمل بطيء ومتدرج يستند إلى وعي طويل النفس، ويتطلب تغييرا مدروسا وهادئا، لكنه جذري في أدوات الدولة وشخوصها.
الداخل هنا لم يعد هامشا، بل عاد ليكون مركز الفهم السياسي للدور الأردني، ومن هذه النقطة بدأ التحول الذي تقوده الحكومة الحالية، برئاسة الدكتور جعفر حسان، فالاقتصاد لم يعد مجرد أرقام مالية أو نسب نمو موسمية، بل تحول إلى مشروع سياسي، يعيد للدولة معناها ودورها ومكانتها، فالدولة ليست جهازا إداريا فقط، وليست حارسا للحدود، بل كيان قادر على النمو، وعلى تثبيت الثقة، وعلى توليد إمكانيات الاستمرار بلا توقف ولا انقطاع.
وهنا يبرز التحدي الأكبر في التحديث، وهو تحقيق التكاملية لا الشراكة الشكلية، بين القطاع العام والقطاع الخاص، فالمطلوب ليس السماح للقطاع الخاص بالمشاركة، بل إعادته إلى موقعه الطبيعي، شريكا في الدولة لا تابعا لها، وهذا يعني التخلص من وهم شيطنة القطاع، وتفكيك الطاووسية البيروقراطية 'وتعالي بعض المسؤولين أيضا' في التعامل معه، والاعتراف بأن الاستثمار ليس خصما بل رافعة، وهذه ليست مسألة خطابات، بل تتطلب تعديلات تشريعية حقيقية، وتوزيعا عادلا للمخاطر والعوائد، ومقعدا دائما للقطاع الخاص في صناعة القرار، فالدولة التي تريد أن تصبح دولة ممر، بشروط تشارك إقليمي واسعة، لا يمكن أن تدار بعقلية الاحتكار، بل بعقلية المصالح المتوازنة.
ومن هنا يمكن فهم الفكرة المحورية، التي تحدد موقع الأردن اليوم، الفرق بين دولة الحاجز ودولة الممر الحيوي في الإقليم، فدولة الحاجز تقف بين القوى المتوترة، وظيفتها سلبية، تمنع ولا تربط، تصد ولا تستقبل، وجودها مرتبط بالخوف لا بالقوة، أما دولة الممر الحيوي، فهي التي تعيد توجيه الحركة، وتربط طرق المصالح، وتستقبل وتوزع وتنسق، وجودها مرتبط بالمنفعة لا بالضرورة، في دولة الحاجز يكون الاستقرار مشروعا دفاعيا، أما في دولة الممر فيتحول الاستقرار إلى مشروع اقتصادي. وهو تحول يجب أن يتجاوز اللغة والإنشائيات إلى استراتيجية عميقة في الدولة، يتشارك فيها الجميع.
لقد قضى الأردن عقودا بوصفه دولة حاجز بين مشروعات متوترة ومتصادمة، لكنه اليوم عليه التحرك ليمارس دور دولة الممر الحيوي على أسس تشاركية، ومن هنا تصبح خطوط السكك التي تربط العقبة بالعراق، والربط الكهربائي مع السعودية والعراق ومصر، وممرات التجارة التي تعيد ربط الخليج بالمتوسط عبر عمان، ليست مشاريع خدمات، بل مفاتيح نفوذ، فالدولة التي تمر عبرها مصالح غيرها، تتحول تلقائيا إلى دولة لا يمكن تجاوزها.
وفي هذا السياق تعود العقبة إلى مركز الدور، فهي ليست مجرد ميناء، بل منصة إقليمية، مدينة تربط البحر بالداخل، والداخل بالأسواق، وكلما توسعت العقبة في وظيفتها اللوجستية والتجارية، اتسعت مساحة الدور السياسي الأردني، الجغرافيا هنا لم تعد مساحة، بل شبكة مركبة من المصالح المترابطة بطبيعتها في عالم وإقليم جديدين.
وفي العمق، هناك الهوية السياسية للدور الأردني، فالأردن ملزم أن يعرف دوره، ويؤطر إلى أوسع مدى ممكن أبعاد هذا الدور، والدول التي تبحث عن دور تصرخ، والدول التي تعرف دورها تتكلم بهدوء، هذا الهدوء ليس ضعفا، بل معرفة بوزن اللحظة، وبإيقاع الإقليم حين يغلي، ولهذا لا يجب أن يبالغ الأردن في الاصطفاف، ولا ينسحب من الطاولة، بل يظل في النقطة التي تسمح له بأن يصل إلى الجميع دون أن يخسر نفسه.
ولا يمكن فصل كل ذلك عن الاستقرار الاجتماعي، فالاقتصاد السياسي لا ينجح إذا فقد المجتمع إحساسه بوجود الدولة، لذلك فإن إعادة تثبيت الطبقة الوسطى 'وإنعاشها'، وتحسين جودة الخدمات، وبناء شبكة أمان اجتماعي، ليست تفاصيل إدارية، بل أساس الدور الإقليمي ذاته، فلا دور بلا مجتمع متماسك، ولا حضور إقليميا بلا قاعدة داخلية مستقرة.
وفي الوقت ذاته يدرك الأردن أن اللحظة الإقليمية والدولية دقيقة، وهذا يتطلب من الأردن أن يمشي على الحبل المشدود، الذي خبر السير عليه عقودا، لا يندفع، ولا ينسحب، بل يحتفظ بهوامش الحركة، وفي قلب هذه المعادلة تتقدم العلاقة مع الرياض، وهي بالتأكيد ليست علاقة ظرف، بل علاقة رؤية إقليمية مشتركة، السعودية تبني مركز ثقلها لا الإقليمي وحسب، بل والعالمي أيضا، والأردن يعيد بناء نفسه بوصفه عقدة وصل، وما بين المركز والعقدة، يتشكل شكل جديد للاستقرار.
من الخارج قد يبدو المشهد ساكنا، البعض يظن أن الأردن ينتظر، لكن من يرى الباطن يعرف أن الصمت هنا ليس توقفا، بل إدارة زمن جديد كما يجب أن يكون، وإدارة خطاب جديد كذلك، وإدارة توازنات مختلفة عن كل ما سبق، فالأردن ليس لديه ترف احتمالات العمل ليرضي مزاجا خارجيا، ولا يبدل موقعه تبعا للتقلبات، بل عليه أن يتحرك وفق مصلحته التي يعرفها وحده، وليس عليه أن يرفع الصوت في لحظة الاضطراب، لكن يجب عليه أن يرفع الكلفة السياسية لمن يخطئ تقدير مكانه.
من لا يفهم هذا 'داخل الأردن وخارجه' سيجده أمامه لاحقا، ومن سيفهم سيعرف أن الأردن لا يجب أن ينتظر دورا، بل يبادر ضمن ممكناته وحدودها القصوى، إلى صناعته للوصول إلى لحظة تثبيته.
المجلة اللندنية