لم يعد التصدي للفكر التكفيري في الأردن مجرد إجراء أمني سريع أو حادثة يمكن النظر إليها في إطار الجريمة التقليدية. العملية التي شهدناها في الرمثا ليلة أؤل من أمس أظهرت بوضوح أن التحدي أبعد من أفراد اختاروا طريق العنف؛ إنه صراع مع منظومة فكرية مريضة تتكرر داخل بعض البيوت، حتى أصبح التطرف لدى بعض العائلات امتدادا «موروثا» يطل علينا بأشكال مختلفة كلما ظننا أنه تلاشى.
فالتحرك الذي نفذته الأجهزة الأمنية لم يكن خطوة عابرة، بل عملية محسوبة بدقة تبرز مستوى الاحتراف الذي بلغته مؤسساتنا الأمنية. وما بين الرصد الاستخباراتي، واختيار اللحظة المناسبة، وإدارة الاشتباك بحرفية عالية، بدا أن الأمن العام يعمل بذهنية الدولة الراسخة التي تحسن تقدير الخطر وتتعامل معه من دون تردد ومن دون الانزلاق إلى كلفة بشرية. إن القدرة على إنهاء مثل هذه المواجهات دون المساس بالمدنيين هي وحدها شهادة كافية على أن من يقفون في الميدان يعرفون معنى الواجب وحدود القوة.
ولعل المشهد الذي عكس طبيعة التهديد بوضوح هو إقدام المطلوبين على إطلاق النار فور دخول القوة. هذا السلوك ليس رد فعل طائشا، بل انعكاس لفكر تكفيري يرى في المواجهة مع الدولة طقسا عقائديا، ويعتبر الاستسلام خروجا عن «منهجه». ومن الطبيعي أمام هذا الوضع أن يكون الرد الأمني سريعا وحاسما، فحماية الأرواح لا تحتمل تأخيرا ولا مجال فيها للمجاملة.
أما الخلفيات المرتبطة بالعائلة المعنية، فتسلّط الضوء على الوجه الأخطر للظاهرة. فمن العائلة من هو متورط في نشاط إرهابي سابق، وقريب آخر سبقه إلى التطرف بسنوات. هذا التشابه بين الأجيال لا يمكن تفسيره بالمصادفة؛ إنه نتاج بيئة مغلقة تستقبل الفكر المتشدد وتعيد تدويره داخل الأسرة ذاتها. وليس المثال الوحيد، فهناك عائلات أخرى في مدن أردنية شهدنا فيها الأب والابن والأخ يتوارثون الخراب، مدفوعين بأجندات متشددة؛ منها ما انكشف وتم حظره، ومنها ما يزال يتحرك بخبث بحثا عن ثغرات.
وما يزيد خطورة هذا الفكر أنه لا يعترف بقيمة الإنسان ولا بقدسية المجتمع. فاللجوء إلى التنكر بزي نسائي، أو الاحتماء بوجود الأقارب، أو الاستعداد لإيذاء القريب قبل البعيد، جميعها سلوكيات تشير إلى مشروع لا يجمعه بالوطن ولا بالأخلاق أي رابط. السلاح هنا ليس إلا أداة؛ أما الخطر الحقيقي فيكمن في الذهنية التي ترى القتل طريقا للتقرب والتكفير وسيلة للهيمنة.
لهذا كله يصبح المجتمع شريكا لا غنى عنه في مواجهة التطرف. فالفكر المتشدد لا يظهر فجأة؛ بل ينمو في الظل عبر منصات مشبوهة، أو علاقات منحرفة، أو تجمعات مغلقة يصعب رصدها من الخارج. والإبلاغ المبكر مسؤولية وطنية، لا انتقاصا ولا اتهاما، بل خطوة تحمي الأبرياء وتمنع امتداد الخطر قبل أن يصبح واقعا يهدد الجميع.
وفي المحصلة، فإن ما يقوم به الأمن العام وقوات الدرك والمخابرات العامة هو خط الدفاع الأهم في حماية الأردن من أي تهديد. يعمل الرجال بصمت، وينجزون بكفاءة، ويقدّمون مصلحة الوطن على كل اعتبار. وبفضل حضورهم الدائم ويقظتهم، يظل الأردن ثابتا، مهما حاولت قوى الظلام اختراق صفوفه أو العبث باستقراره.
حفظ الله الأردن، وحمى أبناءه الذين يقفون في الخط الأول ليبقى الوطن آمنا، قويا، عصيا على كل فكر متطرف يحلم بإرباك أمنه أو تهديد سلمه الاجتماعي.
'الغد'